الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
وبعد نهي الإمام وإذا حاصر المسلمون حصناً فليس ينبغي لأحد أن يؤمن أهل الحصن ولا أحداً منهم إلا بإذن الإمام لأنهم أحاطوا بالحصن ليفتحوه والأمان يحول بينهم وبين هذا المراد في الظاهر. ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يكتسب سبب الحيلولة بين جماعة المسلمين وبين مرادهم خصوصاً فيما فيه قهر العدو. ولأن كل مسلم تجب طاعة الأمير عليه. فلا ينبغي أن يعقد عقداً يلزم الأمير طاعته في ذلك إلا برضاه. ولأن ما يكون مرجعه إلى عامة المسلمين في النفع والضرر فالإمام هو المنصوب للنظر في ذلك. فالإفتيات عليه في ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالإمام ولا ينبغي للرعية أن يقدموا على ما فيه استخفاف بالإمام. فإن فعل ذلك فهو جائز لأن علة صحة الأمان ثابت ومتكامل في حق كل مسلم على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " يسعى بذمتهم أدناهم ". وعلى الإمام أن يكف عن قتالهم حتى ينبذ إليهم بعدما يردهم إلى مأمنهم وإن كانوا أخرجوا. وإن رأى أن يؤدب الذي أمنهم فعل لأنه أساء الأدب حين فعل ما يرجع إلى الاستخفاف بالإمام ولو لم يؤدبه اجترأ غيره على مثله وذلك يقدح في السياسة وتدبير الإمارة. إلا أنه إذا أمنهم على وجه النظر منه للمسلمين وظهر ذلك للإمام فإنه لا يؤدبه في ذلك لأنه قصد بفعله توفي المنفعة على المسلمين فربما تفوتهم تلك المنفعة لو أخره إلى استطلاع رأي الإمام. وفي مثل هذه الحالة يباح له إعطاء الأمان. فإن الواحد منهم إذا قال له سراً: أمني على أن أدلكم على عوراتهم أو على أن أفتح لك الحصن وخاف إن لم يؤمنه أن يفوته ما وعده من ذلك فلا إشكال أن له أن يؤمنه من غير استئمان الإمام لأن الأمان في مثل هذه الحالة يرجع إلى تحصيل مقصود المسلمين وهو يستوجب الشكر على ذلك لا التأديب فلا يؤدبه في مثل ذلك الموضع. ولو أن مسلماً أمن واحداً منهم على مائة دينار على أن ينزل من حصنه إلى المعسكر. فلما قبض الدنانير وجاء به إلى عسكر المسلمين علم به الإمام فقد أساء المسلم في ذلك وأمانه جائز كما لو فعله بغير عوض ثم ينظر الإمام في ذلك. فإن كان شرط له المسلم أنه آمن حتى يخرجوا من أرض الحرب فالإمام بالخيار إن شاء رد الدنانير عليه ورده إلى مأمنه وأن شاء وفى بما شرط له وأخذ الدنانير فجعلها غنيمة لأهل العسكر لأن المعطي للأمان إنما يمكن من أخذ الدنانير بقوة العسكر فلا يختص بها ولكن يجعل فعله لذلك كفعل الأمير أو فعل جماعة المسلمين. وإن كان شرط له أن ينزل إلى العسكر فيلقى رجلاً في حاجة له ثم يعود إلى حصنه فإن الإمام يمضي هذا الأمان ويجعل الدنانير غنيمة لأهل العسكر لأن معنى النظر هنا متعين في تنفيذ هذا الأمان. فإنه آمن فينا حتى يعود إلى حصنه فإن رد عليه الدنانير فلا فائدة للمسلمين في ردها بخلاف الأول. فإن لم يعد إلى حصنه حتى فتح الحصن فهو آمن فينا حتى يبلغ مأمنه من أرض الحرب. ولا فائدة في رد الدنانير عليه ولكن لا يتعرض له حتى يصل إلى مأمنه والدنانير فيء لأهل العسكر. وكذلك لو كان المسلم أمن أهل الحصن شهراً على مائة دينار وأخذها منهم فالإمام بالخيار إن شاء رد الدنانير ونبذ إليهم وإن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض لهم حتى يمضي شهر وأخذ المائة الدنانير فجعلها فيئاً للمسلمين لأن في كل جانب توهم المنفعة عسى فإنه إن طمع في فتح الحصن قبل مضي شهر فالمنفعة في رد الدنانير وإن لم يطمع في ذلك فالمنفعة في أخذ الدنانير وإمضاء الأمان. فلهذا يخير الإمام في ذلك. ولو أن الأمير أمر منادياً فنادى في العسكر: إن من أمن منكم أهل الحصن أو واحداً منهم فأمانه باطل ثم أمنهم مسلم بجعل أو بغير جعل فأمانه جائز لأن العلة الموجبة لصحة الأمان من المسلم لم تنعدم بهذا النداء. وولاية الأمان لكل مسلم ثابتة شرعاً كولاية الشهادة ولا تنعدم هذه الولاية بنهي الإمام. ثم أهل الحرب لا يعلمون هذا النهي فلو لم يصلح أمان هذا المسلم بعد هذا النهي رجع إلى الغرور وهو حرام. إلا أن للأمير أن يؤدب الذي أمن بالحبس والعقوبة إن كان لم يؤمنهم على وجه النظر للمسلمين لأن إساءة الأدب هاهنا أبلغ منها في الفصل الأول فإنه جاهر بمخالفة الإمام فيستوجب الحبس والعقوبة بهذا. فإن أمر بأن ينادي أهل الحصن أو يكتب إليهم أو يرسل إليهم رسولاً: إن أمنكم واحد من المسلمين فلا تغتروا بأمانه فإن أمانه باطل ثم أمنهم رجل فنزلوا على أمانه فهم فيء. لا باعتبار أن أمان المسلم لا يصح بعد هذا النهي ولكن لأن هذا القول من الإمام بمنزلة النبذ إليهم وكما يصح نبذه إليهم بعد الأمان يصح قبل الأمان إذ المقصود بالنبذ دفع الغرور. وذلك ينتفي في الوجهين جميعاً إذا كان النبذ لو طرأ على الأمان دفع ثبوت حكمه فإذا اقترن بالأمان منع ثبوت حكمه. بخلاف الأول فهناك لا علم لأهل الحرب بنهي الأمير والنبذ إليهم لم يتحقق ما لم يعلموا به. وإنما صح النبذ قبل الأمان دفعاً للضرر عن المسلمين. فإنه لو لم يصح ذلك تمكن بعض فساق المسلمين أن يحول بينهم وبين فتح حصونهم بأن يؤمنهم كلما نبذ الأمير إليهم مرة بعد مرة فلا يظفرون بحصن أبداً. فلدفع هذا الضرر صح النبذ إليهم قبل الأمان للإعذار والإنذار. ولو كان قال لهم: لا أمان لكم إن أمنكم رجل مسلم حتى أؤمنكم أنا. ثم أتاهم مسلم فقال: إني رسول الأمير إليكم قد أمنكم. فنزلوا على ذلك فهم آمنون. وإن كان الرجل كذب في ذلك لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل. فإن قيل: هذا إذا ثبتت الرسالة فأما إذا كذب فلا يمكن أن تجعل عبارته كعبارة الأمير لأنه لم يرسله ولا يمكن تصحيح الأمان لهم من جهته لأنه لو قال أمنتكم لا يصح فينبغي أن يكون أمانه باطلاً. قلنا: نعم ولكن حين أخرج الكلام مخرج الرسالة فقد تحقق معنى الغرور إذ لا طريق لهم إلى الوقوف على حقيقة كلامه أنه صادق في ذلك أو كاذب. وإذا كان عقله ودينه يدعوه إلى الصدق ويمنعه من الكذب وسعهم أن يعتمدوا على الظاهر فلو لم يصحح الأمان أدى إلى الغرور بخلاف ما إذا أضاف الأمان إلى نفسه. فإن كان الأمير قال لهم: لا أمان لكم إن أمنكم مسلم أو أتاكم برسالة مني حتى آتيكم أنا فأؤمنكم بنفسي. والمسألة بحالها فهم فيء لأن هذا بمنزلة النبذ لكل أمان إليهم إلا أماناً يسمعونه من لسانه. ولأن دفع الضرر عن المسلمين واجب ولا طريق للأمير في دفع الضرر عنهم إلا ما فعله من التقدمة إليهم فلو لم يصحح ذلك أدى إلى أن يتمكن الفاسق من إفساد الجهاد على المسلمين وذلك لا يجوز. إلا أن في هذا الفصل إن كان الأمير هو الذي أرسل إليهم ليبلغهم الأمان ففعل فهم آمنون. لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فكأنه أمنهم بنفسه وهو بما تقدم إليهم قصد أن يمنعهم من الاعتماد على خبر من يزعم أنه رسول كاذباً ولا يمنهم من الاعتماد على خبر من يرسله إليهم حقيقة ولأنه إنما أبطلنا الخبر إذا كان الرسول كاذباً لدفع الضرر عن المسلمين وهذا لا يوجد فيما إذا كان الرسول صادقاً. يوضحه: أنه إذا أرسل إليهم بعد تلك المقالة فذلك رجوع منه عن تلك المقالة ورجوعه صحيح. ألا ترى أنه لو قال لهم: إذا أمنتكم فأماني باطل. ثم أمنهم بعد ذلك كان ذلك أماناً صحيحاً. باعتبار أن هذا رجوع عما قاله لهم وذلك القول ما كان ملزماً إياه شيئاً فيصح رجوعه عنه. ولو أن مسلماً وادع أهل الحرب سنة على ألف دينار جازت موادعته ولم يحل للمسلمين أن يغزوهم وإن قتلوا واحداً منهم عزموا ديته لأن أمان الواحد من المسلمين بمنزلة أمان جماعتهم. وإن لم يعلم الإمام بذلك حتى مضت سنة أمضى موادعته وأخذ المال فجعله في بيت المال لأن منفعة المسلمين متعينة في إمضاء الموادعة بعد مضي المدة فهو بمنزلة العبد المحجور إذا أجر نفسه وسلم من العمل فإنه ينفذ العقد وتكون الأجرة للمولى. وإن كان لو علم به المولى قبل مضي المدة كان متمكناً من فسخ الإجارة ثم إنما أخذ هذا المال منهم بقوة المسلمين فإن خوف أهل الحرب من جماعة المسلمين لا من واحد منهم فلهذا يأخذ المال منهم فيجعله في بيت المال معداً لنوائب المسلمين. وإن علم بموادعته قبل مضي السنة فإنه ينظر في ذلك فإن كانت المصلحة في إمضاء ذلك الموادعة أمضاها وأخذ المال فجعله في بيت المال لأن له أن ينشئ الموادعة بهذه الصفة إذا رأى المصلحة فيها فلأن يمضيها كان أولى. وإن رأى المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم وقاتلهم لأن أمان المسلم كان صحيحاً والتحرز عن الغدر واجب. فإن كان مضي نصف السنة ففي القياس يرد نصف المال ويمسك النصف للمسلمين. اعتباراً للبعض بالكل وقياساً للموادعة في مدة معلومة بعوض معلوم. وقياساً على الإجارة وهناك إذا انفسخ العقد في بعض المدة يسقط من الأجر بحساب ما بقي ويتقرر بحساب ما مضى. وفي الاستحسان: يرد المال كله لأنهم ما التزموا المال إلا بشرط أن يسلم لهم الموادعة في جميع المدة والجزاء إنما يثبت باعتبار الشرط جملة ولا يتوزع على أجزائه. وكلمة على للشرط حقيقة. والموادعة في الأصل ليست من عقود المعاوضات فجعلنا هذه الكلمة فيها عاملة بحقيقتها. فإذا لم يسلم لهم الموادعة سنة كاملة وجب رد المال كله عليهم. وهذا لأنه ربما يكون خوفهم من بعض المدة دون البعض فإنهم يأمنون في الشتاء أن يأتيهم العدو وإنما يخافون ذلك في الصيف. فإذ نبذ إليهم في وقت خوفهم ومنعهم بعض المال لم يحصل شيء من مقصودهم بهذا الشرط وذلك يؤدي إلى الغرور فلهذا يرد المال إن نبذ إليهم قبل مضي المدة. وإن كانوا وادعوه ثلاث سنين كل سنة بألف دينار وقبض المال كله ثم أراد الإمام نقض الموادعة بعد مضي السنة فإنه يرد عليهم الثلثين لأن الموادعة كانت هاهنا بحرف الباء وهو يصحب الأعواض فيكون المال عوضاً فينقسم على المعوض باعتبار الأجزاء كيف وقد فرق العقود هاهنا بتفريق التسمية حيث قال: كل سنة بألف دينار. بخلاف الأول فهناك العقد واحد في جميع السنة والمال مذكور بحرف على وهو حرف الشرط. فإن قيل: أليس أن في الإجارة بين أن يقرن بالبدل حرف الباء أو حرف على في أنه يتوزع البدل على المدة وكذلك في باب البيع فلماذا فرق بينهما هنا قلنا: لأن البيع والإجارة معارضة باعتبار الأصل ولا يحتمل التعليق بالشرط وأما الموادعة فليست بمعاوضة باعتبار الأصل لا يحتمل التعليق بالشرط وأما الموادعة فليست بمعارضة باعتبار الأصل وإنما تصير معاوضة عند التصريح بحرف الباء الذي يصحب الأعواض وهي تحتمل التعليق بالشرط. فإذا ذكر فيها حرف الشرط كان محمولاً على الشرط حقيقة وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة فيما إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً على ألف درهم فطلقها واحدة أنه لا يجب شيء من المال بخلاف ما إذا قالت: بألف درهم لأن الطلاق يحتمل التعليق بالشرط ليس بمعاوضة باعتبار الأصل فيفصل فيه بين حرف الباء وعلى كما في الأمان. ولكنهما قالا: الخلع معاوضة وما هو المقصود لها - وهو زوال ملكه عنها - يحصل بالواحدة فرجحنا معنى المعاوضة فيه بخلاف الأمان على ما قررنا. ولو حاصر المسلمون حصناً فقال أميرهم لأهل الحصن: إني لعلي أن أؤمنكم فمتى أمنتكم فأماني باطل. أو قال: فلا أمان لكم أو فقد نبذت إليكم ثم أمنهم. فأمانه باطل كما قال لأنه بين لهم على وجه انتفى شبهة الغرور من كل وجه. وهو بما تقدم من الكلام يصير كأنه نبذ إليهم الأمان الذي يكون منه. فإن قيل: لماذا لم يجعل إقدامه على الأمان رجوعاً عن تلك المقالة كما في المسألة المتقدمة قلنا: هناك في الوضع زيادة هو أنه أمنهم بعد مقالته وقال: قد أبطلت قولي لكم أنه لا أمان لكم. فهذا البيان يظهر أنه رجوع. فأما هنا فليس في كلامه ما يدل على الرجوع عن المقالة الأولى بل ما يدل على تحقيقها. ألا ترى أنه لو قال لهم: إني أقاتل أهل هذا الحصن معكم وقد دعوتهم إلى أن أؤمنهم فلم يجيبوني. فأنا أريد أن أظهر لكم الأمان لعلي إذا دعوتهم أجابوني. وهذا الأمان الذي أظهره لكم باطل وزور فلا تغتروا به ثم أمنهم كان ذلك باطلاً. وهذا لأن الأمان مما يحتمل النقض فإذا أعلمهم أن تكلمه به باطل ثم تكلم بعد ذلك فهو بمنزلة من لم يتكلم به. ونظائر هذا في فصول التلجئة في البيع وغيره. وقد بيناه في كتاب الإكراه والإقرار. وذكر بعد هذا باب النزول على الحكم وقد بينا تمام شرح هذا الباب فيما أمليناه من شرح الزيادات.
إذا نزلوا على حكم رجل من المسلمين قال: وإذا نزل أهل حصن قد حوصروا فيه على حكم رجل من المسلمين فذلك جائز لقوله عليه السلام: " ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم احكموا فيهم ". ولأن الروايات اختلفت في نزول بني قريظة على الحكم. فذكر بعض أهل المغازي أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه ابتداءً. فإن النبي عليه السلام لما حاصرهم خمس عشرة ليلة وكان قال لهم في الابتداء - حين أخبره علي رضي الله عنه أنهم يسبونه -: " يا إخوة القردة والخنازير! أتسبونني انزلوا على حكم الله وحكم رسوله ". فقالوا: لا يا أبا القاسم! ما كنت فحاشاً. ثم لما طال عليهم الأمر. عرض عليهم أن ينزلوا على حكم من شاءوا من المسلمين. وكانوا حلفاء الأوس قبل مبعث رسول الله وكان سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا بالنزول على حكمه رجاء أن يحسن إليهم لما كان بينه وبينهم في الجاهلية. فأنزلهم رسول الله على حكمه. فهذا يدل على أنه لا بأس بأن ينزلهم على حكم رجل من المسلمين. والأشهر أنهم نزلوا على حكم رسول الله عليه السلام. ثم جعل رسول الله عليه السلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ برضاهم. فإنما فعل ذلك لأن الأنصار أحاطوا برسول الله فكلموه في شأنهم على سبيل الشفاعة. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة قلوبهم فقال: ألا ترضون أن يحكم فيكم رجل منكم قالوا: نعم قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. وإنما جعل ذلك إليه لأنه كان أصابه سهم يوم الخندق فقطع أكحله. وكان لا يرقأ الدم. فدعا وقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لذلك. فلا شيء أحب إلي من قتال قوم أخرجوا رسولك من بين أظهرهم. وإن لم تبق من ذلك شيئاً فاجعل هذا سبب شهادتي ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة. فلما دعا بذلك رقأ الدم. وإنما تكلم بهذا الدعاء لأنه كان أتى بني قريظة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من رءوس الأنصار حين أخبر أنهم نقضوا العهد ليدعوهم إلى تجديد العهد. فأغلظوا له القول وشتموه. فانصرف عنهم وهو يقول: أتشتموني بيننا وبينكم أهم من الشتم وهو السيف. فلما هزم الله الأحزاب وحاصر المسلمون بني قريظة دعا هو بهذا الدعاء. فلما نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله جعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ وهو كان مريضاً في مسجد رسول الله فأتاه الأنصار وحملوه على حمار ليأتوا به معسكر رسول الله. فجعلوا يكلمونه في الطريق ويقولون: حلفاؤك ومواليك أمكنك الله منهم فأحسن إليهم. وقد علمت أن رسول الله عليه السلام يحب الإحسان والإبقاء. وقد علمت ما فعل عبد الله بن أبي في تخليص حلفاته من بني قينقاع وأنت أحق بذلك منه. فلما أكثروا من ذلك مسح لحيته بيده وقال: لقد آن لسعد أن يأخذه في الله لومة لائم فقالوا فيما بينهم: هلكت قريظة والله. فانصرفوا عنه إلى مجلس رسول الله. فلما أتى سعد إلى مجلس رسول الله قال الأنصار: قوموا لسيدكم. فأنزلوه. جلس بين يدي رسول الله قال: قد جعلت الحكم فيهم إليك فاحكم فيهم. فأقبل سعد عليهم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت!. قالوا: نعم ثم قال للناحية التي فيها رسول الله عليه السلام وهو معرض إجلالاً لرسول الله وعلى من هنا بمثل ذلك!. فقال: رسول الله ومن معه: نعم قال سعد: فإني حكمت فيهم بأن تقتل الرجال وتسبى النساء والذرية وتقسم الأموال. فقال عليه السلام: " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " أي سبع سموات. وهكذا روي في بعض الروايات. ففي هذا دليل أنهم إذا نزلوا على حكم رجل فجعل الحكم إلى غيره برضاهم أنه يجوز وليس له أن يجعل الحكم إلى غيره بغير رضاهم لأن سعداً أخذا عليهم العهد بين يدي رسول الله عليه السلام ليسترضيهم بذلك ولم ينكر ذلك عليه رسول الله عليه السلام. وهذا لأن الناس يتفاوتون في الرأي وهذا الحكم مما يحتاج فيه إلى الرأي. فرضاهم بحكم شخص لا يكون رضاً بحكم شخص آخر حتى إذا جعله إلى غيره بغير رضاهم فحكم بشيء لم ينفذ حكمه إلا أن يجيزه المحكم الأول بعد ما يعلم به فحينئذ ينفذ. لأن إجارته بمنزلة إنشائه. ولأنه إنما تم الحكم برأيه وقد رضوا بذلك ثم إن حكم المحكم فيهم بأن يقتل المقاتلة أو بأن يجعلوا ذمة أو بأن يجعلوا فيئاً فذلك كله نافذ استلالاً بما حكم به سعد. وذكر في بعض الروايات أن سعداً حكم يومئذ بأن يقتل من جرت عليه الموسي. وبه يستدل من يقول بأن البلوغ باعتبار نبات العانة ولسنا نقول بهذا لأن نبات العانة يختلف في أحوال الناس. ألا ترى أن ذلك يبطئ في الأتراك ويسرع في الهنود فلا يمكن أن يجعل حكماً. وتأويل هذا أنه علم بإخبار رسول الله إياه من طريق الوحي أن ذلك علامة بلوغ بني قريظة. وإنما حكم بذلك لأن من جرت عليه الموسى منهم كان مقاتلاً. وإنما حكم بقتل مقاتلهم. والمقاتل يقتل بالغاً كان أو غير بالغ. ولكن الأول أصح لأن غير البالغ إنما يقتل قبل الأسر إذا قاتل فأما بعد ما أسر فلا يقتل. ثم ذكر: أنه لما حكم فيهم سيقوا حتى حبسوا في دار بنت الحارث النجارية وأمر بهم أن يكتفوا. وهكذا ينبغي أن يصنع بالأسراء. قال الله تعالى: وسمي ممن قتل منهم بين يدي رسول الله في المغازي: حيي بن أخطب وكعب بن أسيد وجماعة. فلما انتصف النهار قال النبي عليه السلام: " لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح. قيلوهم واسقوهم حتى يبردوا ثم اقتلوا من بقي منهم ". وفي المغازي ذكر أن رسول الله عليه السلام قام وقال لسعد بن معاذ: شأنك ومن بقي منهم. وكان الذين يلون قتلهم علي ابن أبي طالب والزبير وبن العوام. فقتلوا عند موضع دار ابن أبي الجهم. فسالت دماؤهم حتى بلغ أحجار الزيت. ولم يبين في الكتاب عدد من قتل منهم. وقد اختلفت الروايات فيه فأظهر الروايتين أنهم قتلوا سبعمائة رجل منهم. وقال مقاتل: قتلوا أربعمائة وخمسين. وكان عدد السبي ستمائة وخمسين فكان كل من يشك في أمره يكشف عن عانته على ما قال عطية القرظي: شكوا في أمري يومئذ فكشفوا عن عانتي فإذا أنا لم أنبت فجعلوني في الذرية. وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اقتلوا من جرت عليه الموسى ولا تسبوا إلينا من العلوج أحداً. وإنما نهى عن ذلك على سبيل النظر للمسلمين حتى لا يقصدوهم بسوء. ألا ترى أنهم حين لم يبالغوا في مراعاة نهيه ابتلي بمثل ذلك فقتله أبو لؤلؤة وكان نصرانياً وكان مجوسياً. وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فردني. ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني في المقاتلة. وإنما أورد هذا مستدلاً به على أنه لا يحكم في البلوغ نبات العانة وإنما يعتبر في العلامة بالاحتلام أو بأن يتم له خمس عشرة سنة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وفي قول أبي حنيفة رحمه الله: ثمان عشرة سنة في رواية وتسع عشرة سنة في رواية. وقد بينا هذه المسألة في كتاب الطلاق. تم أبواب الأمان بحمد الله وتوفيقه أمننا الله من النار وأسكننا دار القرار أبواب الأنفال الأنفال الغنائم في أصل الوضع. وأصلها نفل ومنه قول القائل: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل وقال الله تعالى: أي: الغنائم. وسبب نزول الآية ما روي عن عبادة بن الصامت قال: ساءت أخلاقنا يوم بدر فحرمنا فقيل: وكيف ساءت أخلاقكم قال: لما هزم الله العدو افترقنا ثلاث فرق. فرقة كانوا حول رسول الله عليه السلام يحرسونه وفرقة اتبعوا المنهزمين وفرقة جمعوا الأموال. ثم ادعت كل فرقة أنها أحق بالغنائم فاجتمعنا عند رسول الله عليه السلام وارتفعت أصواتنا ورسول الله ساكت. فأنزل الله تعالى في تلك الحالة والمراد في استعمال لفظ الأنفال في عبارة الفقهاء ما يخص به الإمام بعض الغانمين. فذلك الفعل يسمى منه تنفيلاً وذلك المحل يسمى نفلاً. ولا خلاف أن التنفيل جائز قبل الإصابة للتحريض على القتال. فإن الإمام مأمور بالتحريض. قال الله تعالى: فهذا الخطاب لرسول الله ولكل من قام مقامه. والتحريض بالتنفيل. فإن الشجعان قل ما يخاطرون بأنفسهم إذا لم يخصوا بشيء من المصاب. فإذا خصهم الإمام بذلك فذلك يغريهم على المخاطرة بأرواحهم وإيقاع أنفسهم في حلبة العدو. وصورة هذا التنفيل أن يقول: من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أخذ أسيراً فهو له. كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم المنادي حين نادى يوم بدر ويوم حنين. أو يبعث سرية فيقول: لكم الثلث مما تصيبون بعد الخمس أو يطلق بهذا الكلمة. فعند الإطلاق لهم ثلث المصاب قبل أن يخمس يختصون به وهم شركاء الجيش فيما بقي بعد ما يرفع منه الخمس وعند التنفيل بهذه الزيادة يخمس ما أصابوا ثم يكون لهم الثلث مما بقي يختصون به وهم شركاء الجيش فيما بقي ولا يستحق القاتل بدون تنفيل الإمام عندنا. وعلى قول الشافعي: من قتل مشركاً على وجه المبارزة وهو مقبل غير مدبر استحق سلبه وإن لم يسبق التنفيل من الإمام. لأن قول رسول الله عليه السلام من قتل قتيلاً فله سلبه لنصب الشرع ومثل هذا الكلام في لسان صاحب الشرع لبيان السبب كقوله: " من بدل دينه فاقتلوه ". ولكنا نقول هذا لو أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة بالمدينة بين يدي أصحابه. ولم ينقل أنه قال هذا إلا بعد تحقق الحاجة إلى التحريض. فإن مالك بن أنس قال: لم يبلغنا أن النبي عليه السلام قال في شيء من مغازيه: " من قتل قتيلاً فله سلبه " إلا يوم حنين وذلك بعدما انهزم المسلمون ووقعت الحاجة إلى تحريضهم ليكروا كما قال تعالى: وذكر محمد بن إبراهيم التيمي أنه قال ذلك يوم بدر أيضاً. وقد كانت الحاجة إلى التحريض يومئذ معلومة فإنهم كانوا كما وصفهم الله تعالى به في قوله: فعرفنا أنه إنما قال ذلك بطريق التنفيل للتحريض لا بطريق نصب الشر. وأيد ما قلنا ما ذكره عبد الله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً وادي القرى فأتاه رجل فقال: ما تقول في الغنائم فقال: لله سهم ولهؤلاء أربعة. قال: فالغنيمة يغنمها الرجل قال: إن رميت في جنبك بسهم فاستخرجته فلست بأحق به من أخيك المسلم. فهذا دليل ظاهر على أن القاتل لا يستحق السلب بدون التنفيل. وعلى هذا القول اتفق أهل العراق وأهل الحجاز. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقل بعد إحراز الغنيمة. وهو مذهب أهل العراق والحجاز. وأهل الشام يجوزون التنفيل بعد الإحراز وممن قال به الأوزاعي وما قلنا دليل على فساد قولهم لأن التنفيل للتحريض على القتال وذلك قبل الإصابة لا بعدها. ولأن التنفيل لإثبات الاختصاص ابتداءً لا لإبطال حق ثابت للغانمين أو لإبطال حق ثابت في الخمس لأربابها. وفي التنفيل بعد الإصابة إبطال الحق. والدليل على أنه لا يجوز ذلك حديث الحسن أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زماماً من شعر من المغنم فقال: ويلك! سألتني زماماً من نار - مرتين أو ثلاثاً - والله ما كان لك أن تسألنيه وما كان لي أن أعطيكه. وعن مجاهد أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبة من شعر أخذه من المغنم فقال: هب لي هذه فقال: أما نصيبي منها فلك. وعن أبي الأشعث الصنعاني قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام ومعه زمام من شعر. فقال: مر لي بهذا الزمام فإنه ليس لراحلتي زمام. فقال: سألتني زماماً من نار ما لك أن تسألنيه وما لي أن أعطيكه. فرمى به في المغنم. ولو جاز التنفيل بعد الإصابة لما حرمه رسول الله عليه السلام ذلك مع صدق حاجته. والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل بعد الإحراز فإنما يحمل على أنه أعطى ذلك من الخمس بعض المحتاجين باعتبار أنه من المساكين. أو أعطى ذلك من سهم نفسه من الخمس أو الصفي الذي كان له على ما قال: " لا يحل من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ". أو أعطى مما أفاء الله عليه لا بإيجاف الخيل والركاب كأموال بني النضير. فقد كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: أو أعطى ذلك من غنائم بدر. فقد كان الأمر فيها مفوضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ثم انتسخ ذلك بقوله: وذكر: عن موسى بن سعد بن يزيد - أو زيد - قال: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من قتل قتيلاً فله سلبه وما أخذوا بغير قتال قسمة بينهم عن فواق. يعني على سواء. وهكذا ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت الآية وقد اتفقت الروايات على أنه أعطى كل قاتل سلب قتيله يومئذ على ما ذكر عن عاصم بن عمرو بن قتادة قال: أخذ علي سلب الوليد بن عتبة وأخذ حمزة سلب عتبة وأخذ عبيدة بن الحارث سلب شيبة فدفعه إلى ورثته. وكان عبيدة قد جرح فمات في ذات أجدال بالصفراء قبل أن ينتهي إلى المدينة. وهو اسم موضع. واختلفت الروايات في قاتل أبي جهل. فروي عن عبد الرحمن بن عوف قال: كنت يوم بدر بين شابين حديث أسنانهما أحدهما معوذ بن عفراء والآخر معاذ بن عمرو بن الجموح فقال لي أحدهما: أي عم أتعرف أبا جهل قلت: وما شأنك به قال: بلغني أنه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لقيته لما فارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا موتاً وغمزني الآخر إلى مثل ذلك ثم لقيت أبا جهل وهو يسوي صف المشركين. فقلت: ذاك صاحبكما الذي تريدانه. فابتدراه بسيفهما فقتلاه وجاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كل واحد منهما: أنا قتلته فلي سلبه. فقال عليه السلام: أمسحتما سيفكما فقالا: لا فقال: أرياني سيفكما. فأرياه فقال: كلاكما قتله. ثم أعطى السلب معوذ بن عفراء. وذكر في المغازي أنه إنما خصه لأنه رأى أثر الطعان على سيفه فعلم أنه هو القاتل وأنه أعانه الآخر. وروي أنه بعث إلى عكرمة بن أبي جهل فسأله: من قتل أباك فقال: الذي قطعت أنا يده. وإنما كان قطع يد وأشهر الروايتين: أنه أثخنه علي بن بي طالب رضي الله عنه وأجهز عليه ابن مسعود على ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أفتش القتلى يوم بدر لأبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أراه مقتولاً منهم. فرأيت أبا جهل صريعاً وبه رمق فجلست على صدره ففتح عينيه وقال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى عظيماً. فقلت: الحمد لله الذي مكنني من ذلك. فقال: لمن الدبرة فقلت: لله ورسوله. فقال: ماذا تريد أن تصنعه فقلت: أحز رأسك. فقال: خذ سيفي فهو أمضى لما تريد واقطع رأسي من كاهلي ليكون أهيب في عين الناظر وإذا رجعت إلى محمد فأخبره أني اليوم أشد بغضاً له مما كنت من قبل. فقال: قطعت رأسه وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل. فقال عليه السلام: " الله أكبر هذا فرعون أمتي. كان شره علي وعلى أمتي أعظم من شر فرعون على موسى وأمته " ثم نفلني سيفه. زاد في بعض الروايات: وأخبرته بما قال فقال: " إنه كفر في الدنيا وعند موته وسيكفر في النار أيضاً ". قيل: وكيف يا رسول الله قال: " إذا دخل النار جعل ينظر ويقول لأصحابه: أين محمد وأصحابه فيقال له: هم في الجنة. قال: كلا إنما كان اليوم يوم زحمة فهربوا ". والروايات متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ابن مسعود سيفه. وفي بعض فإن صح هذا فإنما يحمل على أن الذي جرحه ما أثخنه فيكون قاتله من قطع رأسه. وإن كان الصحيح أنه أعطى سلبه غير ابن مسعود فإنما يحمل على أن الأول كان أثخنه وصيره بحال يعلم أنه لا يعيش ولا يتصور منه القتال فيكون السلب له دون من قطع رأسه. وإنما أعطى سيفه ابن مسعود لأن التدبير في غنائم بدر كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بينا. وبهذا يستدل من يجوز التنفيل بعد الإصابة فإنه يقول: أعطاه سيفه على طريق التنفيل. وهذا ضعيف لأن ما كان مستحقاً لغيره بالتنفيل لا يجوز أن ينفله الإمام لغيره كيف وقد روي أنه كان على سيفه فضة وعلى قول أهل الشام: لا نفل في ذهب ولا فضة على ما بينه وإن كان هذا تنفيلاً فهو حجة لنا عليهم. وذكر عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: " من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه ". وتمام هذا الحديث أن أبا قتادة قال: كان للمسلمين جولة يوم حنين. فلقيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين. فأتيته من ورائه وضربت على حبل عاتقه ضربة فتركه وأقبل علي فضمني إلى نفسه ضمة شممت ريح الموت. ثم أدركه الموت فأرسلني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: من قتل قتيلاً وله عليه بينة فله سلبه. فقلت: من يشهد لي فقال رجل: صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني. فقال أبو بكر: لاها الله! أيعمد أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله ثم يعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق أبو بكر. وأعطاني سلبه. وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لا مغنم حتى يخمس ولا نفل حتى يقسم جفة أي جملة. وإنما أراد بهذا نفي التنفيل بعد الإصابة نفي اختصاص واحد من الغانمين بشيء قبل الخمس بغير تنفيل وهو مذهبنا. وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا نفل في أول الغنيمة ولا بعد الغنيمة ولا يعطى من الغنائم إذا اجتمعت إلا راع أو سائق أو حارس غير محابى. ومعنى قوله: لا نفل في أول الغنيمة أي بعد الإصابة: لا ينبغي للإمام أن ينفل أحداً شيئاً قبل رفع الخمس ولا بعد رفع الخمس. وقيل معناه: لا ينبغي له أن ينفل في أول اللقاء قبل الحاجة إلى التحريض لأن الجيش في أول اللقاء يكون لهم نشاط في القتال فلا تقع الحاجة إلى التحريض فأما بعد ما طال الأمر وقل نشاطهم فتقع الحاجة إلى التحريض فينبغي أن يكون التنفيل عند ذلك. فلا ينبغي أن ينفل بعد الإصابة. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث. فأهل الشام حملوا هذا على التنفيل بعد الإصابة وليس كما ظنوا بل المراد به أنه كان ينفل أول السرايا الربع وآخر السرايا الثلث لزيادة الحاجة إلى التحريض. فإن أول السرايا يكونون ناشطين في القتال فلا يحتاجون إلى الإمعان في طلب العدو وآخر السرايا قد قل نشاطهم ويحتاجون إلى الإمعان في الطلب. فلهذا زاد فيما نفل لهم وأما الراعي والسائق والحارس فهم أجراء يعطيهم الإمام أجرهم باعتبار عملهم للمسلمين وهو معنى قوله: غير محابى فإنما يعطيهم الأجر بقدر عملهم وليس ذلك من النفل في شيء. وذكر عن خالد بن الوليد وعوف بن مالك أنهما كانا لا يخمسان الأسلاب. وعن حبيب بن مسلمة ومكحول أن السلب مغنم وفيه الخمس. وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه. وإنما يؤخذ بقول هؤلاء لقوله تعالى: والسلب من الغنيمة. وتأويل ما نقل عن خالد وعوف إذا تقدم التنفيل من الإمام لقوله: " من قتل قتيلاً فله سلبه ". وعندنا في هذا الموضع لا يخمس السلب. فأما بدون التنفيل يخمس على ما روي عن مكحول أن البراء بن مالك أخو أنس بن مالك قتل مرزبان الزارة وأخذ سلبه مذهباً بالذهب مرصعاً بالجواهر تبلغ قيمته أربعين ألفاً. فكتب صاحب الجيش ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر أن يأخذ منه الخمس ويدفع سائر ذلك إليه. وهذا مشكل فإنه إن كان سبق التنفيل فلا خمس في السلب. وإن كان لم يسبق التنفيل فأعطى ما بقي إلى البراء فيكون تنفيلاً بعد الإصابة. وذلك لا يجوز عندنا ولكن تأويله أنه كان تقدم بتنفيل مقيد بأن كان الأمير قال: من قتل قتيلاً فله سلبه بعد الخمس. وفي هذا الموضع يخمس السلب عندنا والباقي للقاتل. وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الفرس والسلب من النفل. والمراد أن القاتل بعد التنفيل يستحق الفرس لأن السلب اسم لما يسلب منه بإظهار الجزاء والعناء. وهذا يتحقق في الفرس كما يتحقق في السلب فيدخل الكل في التنفيل بقوله. فإن جرح الكافر رجل بعد تنفيل الإمام ثم قتله الآخر فإن كان الأول صيره بحيث لا يستطيع قتالاً أو عوناً بيد ويعلم أنه لا يعيش مع مثل تلك الجراحة فالسلب للأول وإلا فالسلب للثاني لأن مقصود الإمام من هذا التنفيل أن يظهر القاتل فضل جزاء وعناء بقتل المشرك. وهذا إنما حصل من الأول دون الثاني. لأنه إذا صار بحيث لا يتوهم القتال منه فالثاني لا يحتاج إلى عناء وقوة في حز رأسه وإن كان يتحامل مع تلك الجراحة ويتوهم أن يعيش ويقاتل فقد أظهر الثاني بقتله العناء والقوة فيكون السلب له. ألا ترى أن الصيد إذا رماه إنسان فأثخنه ثم رماه آخر فقتله كان للأول. ولو كان يتحامل بعد رمي الأول حتى رماه الثاني فهو للثاني واستدل على هذا بحديث محمد بن إبراهيم التيمي. قال: قطع محمد بن مسلمة رجلي مرحب وضرب على عنقه. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلبه محمد ابن مسلمة. وفي بعض الروايات أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال محمد: والله يا رسول الله ما قطعت رجليه إلا وأنا قادر على قتله ولكني أردت أن يذوق من الموت ما ذاق أخي محمود. وكان مرحب قد دلى عليه حجر الرحاء. فمكث ثلاثاً حياً ثم مات. فقضى رسول الله عليه السلام بسلبه لمحمد بن مسلمة. وروي أنه لما قطع محمد بن مسلمة رجليه قال مرحب: أجهز علي يا محمد! فقال: لا حتى تذق ما ذاق أخي محمود. وجاوزه. فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فذفف عليه. أي: حز رأسه وأخذ سلبه. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سلبه لمحمد بن مسلمة. قال الراوي من أولاده: وكان سيف مرحب عندنا فيه كتاب كنا لا نعرفه حتى جاء يهودي فقرأه فإذا فيه: هذا سيف مرحب من يذقه يعطب. وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: عانق رجل رجلاً وجاء آخر فقتله. فأعطى سلبه للذي قتله. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: هو بينهما لأن كل واحد منها أظهر زيادة عناء وقوة أحدهما بإثباته والآخر بقتله. وإنما نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لأن الأول بإمساكه لم يخرجه من أن يكون مقاتلاً وإنما القاتل هو الثاني في الحقيقة فيكون السلب له بالتنفيل وقد كان التنفيل من الإمام للقاتل لا للممسك والله أعلم بالصواب.
|